فصل: الأمير ركن الدين بيبرس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر، وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الأمير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة وأغلق القلعة وتحصن فيها، ولزم الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعة من الأمراء وحوصرت القلعة وجرت خبطة عظيمة، وغلقت الأسواق‏.‏

ثم راسلوا السلطان فتأكدت الأمور وسكنت الشرور على دخن، وتنافر قلوب‏.‏

وقوي الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن‏.‏

وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقاً إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل ملك التتر خربندا جيشاً كثيفاً ستين ألفاً من المقاتلة، أربعين ألفاً مع قطلوشاه وعشرين ألفاً مع جوبان، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، فلم يفلت منهم إلا القليل‏.‏

وكان فيمن قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى أمره عنهم، ثم قتل بعده بولاي‏.‏

ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/51‏)‏

فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة‏.‏

ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم‏.‏

منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة، وأن أحداً من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير‏.‏

وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه‏.‏

وكتب الشيخ كتاباً إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله فبعض الحاضرين قال‏:‏ ليس عليه في هذا شيء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب‏.‏

فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي‏:‏ قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزماً ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبراً لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم أرسلوا خلفه من الغد بريداً آخر فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء‏.‏

فقال له بعضهم‏:‏ إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس، فقال القاضي‏:‏ وفيه مصلحة له واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال‏:‏ ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال‏:‏ أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين الزواوي‏:‏ يكون في موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس‏.‏

فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعز حين سجن، وأذن له أن يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه، واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه‏.‏ وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/52‏)‏

ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلاً ونهاراً‏.‏

وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضاً عن يوسف العجمي توفي، وكان محتسباً بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر، وكان العجمي موصوفاً بالأمانة‏.‏

وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع، وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضاً عن شمس الدين الخطيري مضافاً إلى ما بيده من الحسبة، ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا، فاستبشروا بذلك، ورخصت الأسعار، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر، فصلوا بالجامع، وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة، وخرج المحمل، وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري‏.‏

وفيها‏:‏ حج القاضي شرف الدين البارزي من حماه‏.‏

وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية، ثم لطف الله وكف شرها وشررها‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد، وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير ركن الدين بيبرس

العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، كان رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأمره الملك الظاهر‏.‏

كان من أكابر الدولة كثير الأموال، توفي بالرملة لأنه كان في قسم إقطاعه في نصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس فدفن به‏.‏

 الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي

شيخ المينبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده، وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر‏:‏ نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/53‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلماً واستفتاء وغير ذلك‏.‏

وفي مستهل ربيع الأول أفرج عن الأمير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر، فأخرج من البرج وسكن دار الأفرم بالقاهرة، ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة‏.‏

وفي أواخر جمادى الأولى تولى نظر ديوان ملك الأمراء زين الدين الشريف بن عدنان عوضاً عن ابن الزملكاني، ثم أضيف إليه نظر الجامع أيضاً عوضاً عن ابن الخطيري، وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الأيتام عوضاً عن نجم الدين بن هلال‏.‏

وفي رمضان عزل الصاحب أمين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر‏.‏

وفيها‏:‏ عزل كمال الدين بن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال، وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل، وحملت إليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها، واستمر معزولاً إلى يوم عاشوراء من السنة الآتية، فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصداً الحج، وذلك في السادس والعشرين من رمضان، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، ولما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر‏.‏

فلما توسطه كسر به فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر، وبقي نائب الكرك الأمير جمال الدين آقوش خجلاً يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد، وكان قد عمل للسلطان ضيافة عزم عليها أربعة عشر ألفاً فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولأصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فسافر، واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها‏.‏

وكان يحضر دار العدل ويباشر الأمور بنفسه، وقدمت عليه زوجته من مصر، فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/54‏)‏

ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ المنبجي عدو ابن تيمية

لما استقر الملك الناصر بالكرك وعزم على الإقامة بها كتب كتاباً إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيان الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك المظفر، وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه، وجلس على سرير الملكة بالقلعة‏.‏

ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان‏.‏

وفي مستهل ذي القعدة وصل الأمير عز الدين البغدادي إلى دمشق، فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقصر الأبلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر، وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال‏:‏ ليس أحد يترك الملك مختاراً، ولولا أنه مضطهد ما تركه، فعزل وأقيم غيره، واستحلفهم للسلطان الملك المظفر، وكتبت العلامة على القلعة، وألقابه على محال المملكة‏.‏

ودقت البشائر وزينت البلد، ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الأمراء بالقصر، وفيه‏:‏ إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك، تباكى جماعة من الأمراء وبايعوا كالمكرهين، وتولى مكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأمير سيف الدين بن علي، ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص، ومكان بنخاص الأمير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك‏.‏

وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها، وحضر نائب السلطنة الأفرم والقضاة، وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة، وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الأمراء، وعليهم الخلع كلهم‏.‏

وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية، والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة، والصاحب ضياء الدين النساي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود، وأوله‏:‏ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوماً مشهوداً، وفرح بنفسه أياماً يسيرة، وكذا شيخه المنبجي، ثم أزال الله عنهما نعمته سريعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/55‏)‏

وفيها‏:‏ خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ الصالح عثمان الحلبوني

أصله من صعيد مصر، فأقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية، ومكث مدة لا يأكل الخبز، واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة في أواخر المحرم، ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الأعيان‏.‏

 الشيخ الصالح

أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنبلي إمام مسجد عطية، ويعرف بابن المقري روى الحديث وكان فقيهاً بمدارس الحنابلة‏.‏

ولد بحران سنة أربع وثلاثين وستمائة، وتوفي بدمشق في العشر الأخير من رمضان، ودفن بسفح قاسيون، وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة، وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله‏.‏

 السيد الشريف زين الدين

أبو علي الحسن بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الأشراف، كان فاضلاً بارعاً فصيحاً متكلماً، يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الإمامية، ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم، وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الأفرم، توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة، ودفن بتربتهم بباب الصغير‏.‏

 الشيخ الجليل ظهير الدين

أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي، شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة، وقد سمع الحديث وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم سار إلى مكة، بعد وفاة عمه، فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/56‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الأفرم، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويتشغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع‏.‏

وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكنوا أحداً من أصحابه أن يخرج معه إلى الإسكندرية، فضاقت له الصدور، وذلك أنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي‏.‏

وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول‏:‏ زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأبتاعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحداً من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقرباً منه وانتفاعاً به واشتغالاً عليه، وحنواً وكرامة له‏.‏

وجاء كتاب من أخيه يقول فيه‏:‏ إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمرواً يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله‏.‏

وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندماً على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين‏.‏

وذلك شجى في حلوق الأعداء واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيساً من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين‏.‏

إلا من شذ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغار - محبة الشيخ وتعظيمه وقوبل كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سراً وجهراً وباطناً وظاهراً، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يعبر عنه، وذكر كلاماً كثيراً‏.‏

والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيماً ببرج متسع مليح نظيف له شباكان‏:‏ أحدهما إلى جهة البحر، والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، ويقرؤون عليه وستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/57‏)‏

وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبدا لقادر بن الخطيري‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الإمام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني‏.‏

وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً‏.‏

وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي، عوضاً عن التقي سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وإنه إنما نزل عنه مضطهداً بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال‏.‏

وفي عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، عوضاً عن الرستمي فلم يقبل، وبنظر الخزانة للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي، فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد‏.‏

وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدين الأيكي، لأنه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرسم بصرفه عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الإسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقاً‏.‏

وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها، وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصداً دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد مالأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين‏.‏

وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الأفرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجم الغفير، فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبطت الأمور فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر‏.‏

وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/58‏)‏

وقفز إليه الأميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الأمير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الأمير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبر أن السلطان الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها‏.‏

صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزاول دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي

لما كان ثالث عشر شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الأميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضاه على المجيء إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون‏.‏

وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والإقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الأمان إلى الأفرم، ودعا له المؤذنون في المئذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودي في الناس بالأمان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الأسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد‏.‏

وخرج القضاة، والأمراء والأعيان لتلقيه‏.‏

قال كاتبه ابن كثير‏:‏ وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة، وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله، وبين يديه، والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجاً عالياً، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكارثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم‏.‏

ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليها نائبها الأمير سيف الدين السنجري، فقبل الأرض بين يديه، فأشار إليه إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الأبلق والأمراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/59‏)‏

وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب دمشق مطيعاً للسلطان، فقبل الأرض بين يديه، فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته، وفرح الناس بطاعة الأفرم له، ووصل إليه أيضاً الأمير سيف الدين قبجق نائب حماه، والأمير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقيهما، وتلقاهما السلطان كما تلقى الأفرم‏.‏

وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان، وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الأمراء والدولة وكثير من العامة‏.‏

وفي هذا اليوم وصل إلى السلطان الأمير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضاً‏.‏

ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر، والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوا به وأمرائه، فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة‏.‏

وتلقاه الأمير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الأمراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجيء البريد بصورة الناصري‏.‏

واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلّى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلّى وجدوا خطيب المصلّى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلّى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلّى، فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم‏.‏

وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري، وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال، وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/60‏)‏

وقد روى شيئاً من الحديث، وصرف الأمير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيابة صرخد وقدم إلى دمشق الأمير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الاستادارية عوضاً عن سيف الدين أقجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة‏.‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية معززاً مكرماً مبجلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حفل‏.‏

فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال‏:‏ أنا حاللت كل من أذاني‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الأمراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلاً، وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضراً هذا المجلس‏.‏

ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائماً للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصرى‏.‏

ثم صدر الدين علي الحنفي وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني‏.‏

قال ابن القلانسي‏:‏ وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان‏:‏ ما تقولون يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله رداً عنيفاً، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/61‏)‏

وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك‏.‏وقال للسلطان‏:‏ حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك، فقال‏:‏ والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائباً لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على، ذلك وجرت فصول يطول ذكرها‏.‏

وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته، وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم‏.‏

وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له‏:‏ إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له‏:‏ إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراً، فقال الشيخ‏:‏ من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح‏.‏

قال‏:‏ وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول‏:‏ ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره‏.‏

وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال‏:‏ قد جعلت الكل في حل، وبعث الشيخ كتاباً إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها‏.‏

وقال في هذا الكتاب‏:‏ والحق كل ماله في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم من يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة‏.‏

وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولاً، والمذكور مفعولاً، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وذكر كلاماً طويلاً يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/62‏)‏

وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الأمراء قريباً من عشرين أميراً، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جداً، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء، وهم يسمونها السويداء، ووقعة السويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه، وهربت قيس خوفاً من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة‏.‏فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائباً على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد، واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهباً إلى طرابلس نائباً والفتوحات السواحلية عوضاً عن الأمير سيف الدين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة‏.‏

منهم‏:‏ قاضي قضاة الحنفية صدر الدين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمت وجلست يوماً إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئه من مصر فقال لي‏:‏ أتحب ابن تيمية‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، فقال لي وهو يضحك‏:‏ والله لقد أحببت شيئاً مليحاً، وذكر لي قريباً مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابن القلانسي أتم‏.‏

 مقتل الجاشنكيري

كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الأمير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجهاً إلى نيابة الشام عوضاً من الأفرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم، وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن‏.‏

فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمن منهم ورجعا إلى عسكرهم ودخل به، استدمر على السلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به، قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله، بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصرى، وابن الزملكاني، وابن القلانسي، وعلاء الدين بن غانم، وخلق من الأمراء المصريين والشاميين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/63‏)‏

وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته، فلما كان يوم الجمعة الأخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والأكابر والأعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الإمامة والخطابة اثنين وأربعين يوماً، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الآتية‏.‏

وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وذلك أن استدمر ساعده على ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده، وأمر الخطباء أولاً أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءاً شديداً وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهل البدعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخطيب ناصر الدين أبو الهدى

أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب العقيبة بداره بها، وقد باشر نظر الجامع الأموي وغير ذلك، توفي يوم الأربعاء النصف من المحرم، وصلّي عليه بجامع العقيبة، ودفن عند والده بباب الصغير، وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والأعيان‏.‏

 قاضي الحنابلة بمصر

شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني، ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء، وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأول دفن بالقرافة؛ وولي بعده سعد الدين الحارثي كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/64‏)‏

 الشيخ نجم الدين

أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي، كان رئيس المؤذنين بجامع دمشق ونقيب الخطباء، وكان حسن الشكل رفيع الصوت، واستمر بذلك نحواً من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادى الأولى‏.‏

وفي هذا الشهر توفي‏:‏

 الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري

تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معاً، وباشر شد الدواوين بالشام مرات، وله دار وبستان بدمشق مشهوران به، وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة، توفي بمصر‏.‏

 الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي

شاد الدواوين بدمشق، وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي، وكانت له سطوة توفي يوم الأحد تاسع عشر جمادى الأولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناها تجاه قبة الشيخ رسلان، وكان فيه كفاية وخبرة‏.‏

وباشر بعده شد الدواوين أقبجا‏.‏

وفي شعبان أو في رجب توفي‏:‏

 التاج أحمد بن سعيد الدولة

وكان مسلمانياً وكان سفير الدولة، وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير، وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل، ولما توفي تولى وظيفته ابن أخته كريم الدين الكبير‏.‏

 الشيخ شهاب الدين

أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الأصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، ولد سنة اثنتين وستمائة، وسمع الحديث وباشر وظيفة الأذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة، وكان رجلاً جيداً والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والشيخ تقي الدين بن تيمية مقيم بمصر معظماً مكرماً، ونائب مصر الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، سوى الحنبلي فإنه سعد الدين الحارثي، والوزير بمصر فخر الدين الخليلي، وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك، ونائب الشام قراسنقر المنصوري، وقضاة دمشق هم هم، ونائب حلب قبجق، ونائب طرابلس الحاج بهادر والأفرم بصرخد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/65‏)‏

وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية، والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية، كلاهما انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر، وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي، ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه، فأقام بهما شهراً أو سبعة وعشرين يوماً‏.‏

ثم استعادهما منه ورجعنا إلى المدرسين الأولين‏:‏ الأمين سالم، والصدر الكردي، ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم، وعزل عنها البدر بن الحداد، وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والأسرى والأوقاف قاطبة يوم الاثنين، ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع، وكان ناظره مستقلاً به قبلهما‏.‏

وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متولياً نيابة حماه، وسافر إليها بعد سبعة أيام‏.‏

وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضاً عن شمس الدين بن الخطيري، ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية، وكتبوا إلى الوكيل محضراً يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل، فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، فحكم بإسلامه وحقن دمه، وحكم بإسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب‏.‏

وكانت هذه هفوة من الحنبلي، ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي، والشامية الجوانية للأمين سالم، ولم يبق معه سوى دار الحديث الأشرفية‏.‏

وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متولياً الوزارة بالشام، ومعه توقيع بالحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، فباشرا المنصبين بالجامع، ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء، ثم انتقل الوزير إلى دار الأعسر عند باب البريد، واستمر نظر الخزانة لعز الدين أحمد بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين‏.‏

وفي مستهل ربيع الأول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضاً عن ابن جماعة، وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ، وأعيدت إلى الكريم الأيكي، وأخذت منه الخطابة أيضاً‏.‏

وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية، فسار في العشرين من ربيع الأول وخرج معه جماعة لتوديعه، فلما قدم على السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية، وجامع الحاكم، وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياماً ثم مات‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/66‏)‏

وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميراً‏.‏

وفي ربيع الآخر اهتم السلطان بطلب الأمير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه، ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر، ثم قتل بعد ذلك فوجد معه من الأموال والحيوان والأملاك والأسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضاً والرباع شيئاً كثيراً‏.‏

وأما الجواهر والذهب والفضة فشيء لا يحد ولا يوصف في كثرته، وحاصل الأمر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال وأموال المسلمين تجري إليه، ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريماً محبباً إلى الدولة والرعية والله أعلم‏.‏

وقد باشر نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الأربعاء رابع عشرين هذا الشهر، ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة، سامحه الله‏.‏

وفي ربيع الآخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضاً عن شمس الدين الحريري، وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والأعيان‏.‏

وفي هذا الشهر كان الأمير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله، وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فاستنجز له مرسوماً بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية، فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر، فاتفق أنه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس الصالحية‏.‏

وذكر أنه وجد عنده شيء من المنكرات، واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم، وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه، فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية، فخرجت عنه دار الحديث الأشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك‏.‏

فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئاً على الجامع، ثم ولاه تدريساً هناك وأحسن إليه، وكان الأمير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادى الآخرة عوضاً عن سيف الدين قبجق توفي، وباشر مملكة حماه بعده الأمير عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وانتقل جمال الدين آقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الحاج بهادر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/67‏)‏

وفي يوم الخميس سادس عشر شعبان باشر الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضاً عن ابن الوكيل، وأخذ في التفسير والحديث والفقه، فذكر من ذلك دروساً حسنة، ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوماً حتى انتزعها منه كمال الدين بن الشريشي فباشرها يوم الأحد ثالث شهر رمضان‏.‏

وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة، فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر، ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياماً ثم أذن في دخولهم‏.‏

وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس الذي كان نائباً في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضاً عن زين الدين كتبغا المنصوري‏.‏

وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشيخة الشيوخ بالديار المصرية عوضاً عن الشيخ كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الأيكي توفي، وكان له تحرير وهمة، وخلع على القونوي خلعة سنية، وحضر سعيد السعداء بها‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزراء بالشام عوضاً عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية‏.‏

وفي هذا اليوم لبس تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الأموي، ومسك الأمير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر، وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، شارح ‏(‏الهداية‏)‏، كان بارعاً في علوم شتى، وولي الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام، توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام، أضحك فيها على نفسه، وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات، وأبطل حجته‏.‏

وفيها توفي سلار مقتولاً كما تقدم‏.‏

 الصاحب أمين الدولة

أبو بكر بن الوجيه عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي، والحاج بهادر نائب طرابلس مات بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/68‏)‏

والأمير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه، ثاني جمادى الآخرة وكان شهماً شجاعاً، وقد ولي نيابة دمشق في أيام لاجين، ثم قفز إلى التتر خوفاً من لاجين، ثم جاء مع التتر‏.‏

وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان، ثم تنقلت به الأحوال إلى أن مات بحلب، ثم وليها بعده استدمر ومات أيضاً في آخر السنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي

شيخ الشيوخ بمصر، كان له صلة بالأمراء، وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة، توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء، وتولاها بعدة الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم‏.‏

 الفقيه عز الدين عبد الجليل

النمراوي الشافعي، كان فاضلاً بارعاً، وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه‏.‏

ابن الرفعة

هو الإمام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح ‏(‏التنبيه‏)‏، وله غير ذلك، وكان فقيهاً فاضلاً وإماماً في علوم كثيرة رحمهم الله‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيراً، والنجم البصراوي عزل أيضاً بعز الدين القلانسي، وقد انتقل الأفرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك، ونائب حماه الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه، وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها، وأرغون الدوادار الناصري قد وصل إلى دمشق لتسفير قراسنقر منها إلى حلب وإحضار سيف الدين كراي إلى نيابة دمشق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/69‏)‏

وغالب العساكر بحلب والأعراب محدقة بأطراف البلاد، فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق في ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه، وخرج الجيش لتوديعه، وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم إلى نائب القلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق إلى أن يأتيه نائب، فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة‏.‏

وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير إلى أن ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الأسرار، واستمر في يده، وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري إلى دمشق نائباً عليها‏.‏

وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع، وأعيدت مقصورة الخطابة إلى مكانها رابع عشرين المحرم، وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة، وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة بأقطاع يضاهي إقطاع كبر الطبلخانات‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول جلس القضاة الأربعة بالجامع لإنفاذ أمر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم، فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك، فلم يكن منه كبير شيء، ولم يتغير حال‏.‏

وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الأشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواودين عوضاً عن شهاب الدين الواسطي، وأعيد تقي الدين بن الزكي إلى مشيخة الشيوخ‏.‏

وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة، وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي، والميعاد العام بجامع طولون، ونظر الأحباس أيضاً‏.‏

وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد عوضاً عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الآخر‏.‏

وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين ابن القلانسي بدمشق، ورسم عليه مدة شهرين، وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه، ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة إلى الحكم بديار مصر في حادي عشر ربيع الآخر، مع تدريس دار الحديث الكاملية، وجامع طولون والصالحية والناصرية، وجعل له إقبال كثير من السلطان‏.‏

واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم، ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي بدار العدل عند السلطان‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى أشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل، ونفذه بقية الحكام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/70‏)‏

وأحضر ابن القلانسي إلى دار السعادة وادّعى عليه بريع ذلك، ورسم عليه بها، ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي، ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي‏.‏

وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم، وضربت على الأملاك والأوقاف، فتألم الناس من ذلك تألماً عظيماً وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واحتفلوا بالاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفية، ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب، وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة، فتألم الناس من ذلك كثيراً، فلم يمهله الله إلا عشرة أيام فجاءة الأمر فجأة فعزل وحبس، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة، وصفة مسكه أن تقدم الأمير سيف الدين أرغون الدوادار فنزل في القصر، فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى خلع على الأمير سيف الدين كراي خلعة سنية، فلبسها وقبل العتبة، وحضر الموكب ومد السماط، فقيد بحضرة الأمراء وحمل على البريد إلى الكرك صحبة غرلو العادلي، وبيبرس المجنون‏.‏

وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة، فصلى في الجامع الظهر ثم عاد إلى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس، ثم رجع إلى دار الحديث الأشرفية فجلس فيها نحواً من عشرين يوماً، حتى قدم الأمير جمال الدين نائب الكرك‏.‏

وفي هذا الشهر مسك نائب صفت الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري، ومسك نائب غزة، وعوض عنه بالجاولي، فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب، وبكتمر نائب مصر، وكراي نائب دمشق، وقطلوبك نائب صفت، وقلطنمز نائب غزة وبنحاص‏.‏

وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك على نيابة دمشق إليها في يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الآخر، وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع، وفي صحبته الخطيري لتقريره في النيابة، وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة، وخرج عز الدين بن القلانسي لتلقي النائب‏.‏

وقريء يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والأعيان، وفيه الأمر بالإحسان إلى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي، فكثرت الأدعية للسلطان وفرح الناس‏.‏

وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الأمير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/71‏)‏

وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين بدمشق، مشاركاً للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه، وأنه أعفي عن الوزارة لكراهته لذلك‏.‏

وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الأوقاف عوضاً عن شمس الدين عدنان‏.‏

وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه إلى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه، فتضاعفت له الأدعية في الأسواق وغيرها‏.‏

وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان، ونظر الخاص والإنكار لما ثبت عليه بدمشق، وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه، وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني، والأمير سيف الدين أرغون الدوادار‏.‏

وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته، وامتنع غيرهم أيضاً وردهم المالكي‏.‏

وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب، والأمير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضاً عن طوغان، وخلع عليهما معاً‏.‏

وفيها‏:‏ ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد إلى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري، ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة، فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد، فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر، وخلص عبيدة وجاء سالماً‏.‏

وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الأمير علاء الدين طيبغا أخو بهادراص‏.‏

وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الأمير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل إلى بركة زيرا، وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفاً على نفسه ومعه جماعة من خواصه، ثم سار من هناك إلى التتر بعد ذلك كله، وصحبه الأفرم والزردكش‏.‏

وفي العشرين من ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين أرغون في خمسة آلاف إلى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص، وتلك النواحي‏.‏

وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمراً على وكالته ومع توقيع بقضاء العسكر الشامي، وخلع عليه في يوم عرفة‏.‏

وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملي من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم إلى البلاد الشمالية‏.‏

وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ، فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والأعيان، وانفصل ابن الزكي عنها‏.‏

وفيه باشر الصدر علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير كتابة السر بمصر، وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله، إلى كتابة السر بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، واستمر محيي الدين على كتابة الدست بمعلوم أيضاً والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/72‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ الرئيس بدر الدين

محمد بن رئيس الأطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري، من سلالة سعد بن معاذ السويدي، من سويداء حوران، سمع الحديث وبرع في الطب، توفي في ربيع الأول ببستانه بقرب الشبلية، ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة‏.‏

 الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الأربلي

شيخ الحلبية بجامع بني أمية، كان صالحاً مباركاً فيه خير كثير، كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء، وكانت جنازته حافلة جداً، صلّي عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة، وروى شيئاً من الحديث، وخرجت له مشيخة حضرها الأكابر رحمه الله‏.‏

 الشيخ ناصر الدين يحيى بن إبراهيم

ابن محمد بن عبد العزيز العثماني، خادم المصحف العثماني نحواً من ثلاثين سنة، وصلّي عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية، وكان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد ووصله منه افتقاد، وبلغ خمساً وستين سنة‏.‏

الشيخ الصالح الجليل القدوة

 أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأموي، توفي في العشرين من رمضان بسفح قاسيون، وحضر الأمراء والقضاة والصدور جنازته وصلّي عليه بالجامع المظفري، ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له، وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة، وكان عنده فضيلة وفيه تودد، وجمع أجزاء في أخبار جيدة، وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/73‏)‏

 ابن الوحيد الكاتب

هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي المعروف بابن الوحيد، كان موقعاً بالقاهرة وله معرفة بالإنشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه، وانتفع الناس به، وكان فاضلاً مقداماً شجاعاً، توفي بالمرستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال‏.‏

 الأمير ناصر الدين

محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات، وهو حاكم البندق، ولي ذلك بعد سيف دين بلبان، توفي في العشرين الأخر من رمضان‏.‏

 التميمي الداري

توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى، وقد ولي الوزارة بمصر، وكان خبيراً كافياً، مات معزولاً، وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة‏.‏

وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الأمير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك‏.‏

القاضي الإمام العلامة الحافظ

 سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي الحاكم بمصر، سمع الحديث وجمع وخرج وصنف، وكانت له يد طولى في هذه الصناعة والأسانيد والمتون، وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وأفاد، وحسن الإسناد رحمه الله تعالى، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي خامس المحرم توجه الأمير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الأفرم، وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا، وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الأفرم وقراسنقر والزردكاش وجميع ما يتعلق بهم، وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الإمرة أخاه محمداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/74‏)‏

وعادت العساكر صحبة أرغون من البلاد الشمالية، وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن، وقدم سودي من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه، وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق إلى مصر، فركب من ساعته على البريد إلى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين‏.‏

وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش إلى مصر، فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضاً عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه، في عاشر ربيع الأول‏.‏

وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي، وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة، وقدم الأمير سيف الدين تمر على نيابة طرابلس عوضاً عن الأفرم بحكم هربه إلى التتر‏.‏

وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الأمراء ستة في نهار واحد وسيروا إلى الكرك معتقلين بها‏.‏

وفيه‏:‏ مسك نائب مصر الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وولي بعده أرغون الدوادار، ومسك نائب الشام جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب الحجاب بمصر، وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك، في برج هناك‏.‏

وفيه‏:‏ وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن أبي الفوارس ودار الشريف القباني‏.‏

 نيابة تنكز على الشام

في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائباً على دمشق بعد مسك نائب الكرك، ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج أرقطاي على حيز بيبرس العلائي، وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيراً، ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب‏.‏

وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه، وجاء توقيع لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه، وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية‏.‏

وجاء مرسوم لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر، ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن البدر، وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس، وتولى أرغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار قطب الدين بن شيخ السلامية مباشراً معه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/75‏)‏

وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيراً بليغاً عنيفاً وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادي عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة‏.‏

ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه‏.‏

وفيها‏:‏ قدم بهادراص من نيابة صعد إلى دمشق وهنأه الناس‏.‏

وفيها‏:‏ قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله‏.‏

وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء إلى الشام، فانزعج الناس من ذلك وخافوا، وتحول كثير منهم إلى البلد، وازدحموا في الأبواب، وذلك في شهر رمضان وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا إلى الرحبة، وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك بإشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم‏.‏

وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف، فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية، هو أمر بذلك وبالكتاب الأول قبله‏.‏

وفي أول رمضان وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوماً وقاتلهم نائبها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالاً عظيماً، ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤوس خيل، وعشرة أباليج سكر، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده‏.‏

وكانت بلاد حلب وحماه وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودقت البشائر وتركت الأئمة القنوت، وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة‏.‏

وكان سبب رجوع التتر قلة العلف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/76‏)‏

وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير، الذي كان والي البر وقدمت العساكر المصرية أرسالاً، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال، واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر، وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة، وخلع على الخطيب‏.‏

وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر، وقدم صحبة السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة، وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من السناء أيضاً لرؤيته‏.‏

وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياماً، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميراً من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة‏.‏

ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازماً لاشتغال الناس في سائر العلوم، ونشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة، والاجتهاد في الأحكام الشرعية ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف‏.‏

فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق‏.‏

وفي يوم الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة وكالة بيت المال عوضاً عن ابن الشريشي، وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالاً كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء، منهم ابن فضل الله محيي الدين‏.‏

وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضاً عن نجم الدين داود الكردي توفي، وقد كان مدرساً بها من نحو ثلاثين سنة، فسافر ابن جهبل إلى القدس بعد عيد الأضحى‏.‏

وفيها‏:‏ مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان، وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان شهماً شجاعاً على دين التتر في عبادة الأصنام والكواكب، يعظم المجسمة والحكماء والأطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف‏.‏

كان جيشه هائلاً لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم وعددهم، ويقال‏:‏ إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحداً فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفاً، توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان، وكان مسلماً فأظهر دين الإسلام ببلاده، وقتل خلقاً من أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الإسلام والسنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الملك المنصور صاحب ماردين

وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الأرتقي أصحاب ماردين من عدة سنين، كان شيخاً حسناً مهيباً كامل الخلقة بديناً سميناً إذا ركب يكون خلفه محفة، خوفاً من أن يمسه لغوب فيركب فيها‏.‏

توفي في تاسع ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريباً من عشرين سنة، وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر يوماً، ثم ملك أخوه المنصور‏.‏

وفيها مات‏:‏

 الأمير سيف الدين قطلوبك الشيخي

كان من أمراء دمشق الكبار

 الشيخ الصالح

نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن هارون بن محمد بن هارون بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي، قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها، روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق، وقد خرج له الإمام العلامة تقي الدين السبكي مشيخة، وكان رجلاً صالحاً توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر، وكانت جنازته حافلة‏.‏

 الأمير الكبير الملك المظفر

شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم، سمع الحديث وكان رجلاً متواضعاً توفي بمصر ثاني عشر رجب، ودفن بالقاهرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/78‏)‏

قاضي القضاة

 شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن خازم الأزرعي الحنفي، كان فاضلاً درس وأفتى وولي قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسة أيام، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم‏.‏